[ هذا المقال جزء من ”أصوات من أجل غزة" وهو ملف خاص تنشره جدلية على مدار شهر كامل. للإطلاع على بقية المقالات اضغط/ي هنا]
نعم مازال قطاع غزة محتلاً، فبالرغم من الاحتجاجات الإسرائيلية الرسمية حول إنهاء الاشتباك الأحادي الجانب والمتفق عليه في عام ٢٠٠٥ والذي أزال القواعد الإسرائيلية العسكرية والمستوطنات اليهودية والذي حول القطاع إلى منطقة ”لم تعد محتلة“ فإن هذه التغيرات وكل ما حصل منذ ذلك لم يؤد فعليا إلى انتهاء الاحتلال.
الاحتلال له تعريف قانوني متعارف عليه دولياً , ووجود إسرائيل في قطاع غزة مازال يعتبر احتلالاً لعدة أسباب. أولاً إن إسرائيل مازالت تسيطر بشكل فعال على المنطقة, ثانياً النزاع الذي أدى إلى الاحتلال لم ينته بعد، ثالثاً لا تستطيع أي دولة احتلال أن تغيير الصفة الدولية لأي منطقة محتلة بشكل أحادي الجانب وبدون أي اتفاقات دبلوماسية دولية إلا في حال إنهاء كل أشكال السيطرة الفعالة على هذه المنطقة.
هراء الوضع الفريد
نستطيع أن نفهم مدى هشاشة الإدعاء الإسرائيلي بأن قطاع غزة “لم يعد محتلاً” عندما نتذكر موقف إسرائيل السابق بأن قطاع غزة والضفة الغربية لم تكونا محتلتين قبل ١٩٦٧. فالمسؤولون الإسرائيليون يدّعون أن هاتين المنطقتين لهما وضع فريد وذلك أنه في أثناء الغزو الإسرائيلي كانت كل من قطاع غزة والضفة الغربية خاضعة للسيطرة المصرية والأردنية ولكن ليس لسيادة هاتين الدولتين. فبحسب التعريف الإسرائيلي يشمل الاحتلال فقط المناطق التي لها سيادة معترف بها من قبل الدول المبعدة, من هنا جاء المبدأ ”لاسيادة فلا احتلال“ وهو مبدأ غير مقبول من قبل المجتمع الدولي. ونتيجة هذه المبادئ الاستنتاج أن قطاع غزة والضفة الغربية لم تكن لهما سيادة ولذلك فهما لم تكونا محتلتين بل كانتا أراضي مدارة. أما المبدأ الآخر الذي يقوم عليه الإدعاء أن المنطقتين غير محتلتان هو إدعاء إسرائيل بأن لها الحق في كل أجزاء تلك الأراضي لأنها تشكل جزءاً مما تبقى من “أرض إسرائيل” التي هي من حق الشعب اليهودي التاريخي والمقدس.
إن الدافع الأساسي من نشر فكرة أن المناطق الفلسطينية لها ”وضع فريد“ هو دافع سياسي بحت. فلو قبلت إسرائيل الاتفاق الدولي بأنها دولة احتلال فهذا معناه أنها ستُقيَّد وتُمنَع من مواصلة انتزاع واستيطان الأراضي التي تحتلها بالقوة ولذلك سعت إسرائيل لتقديم حجة قانونية ملفقة تبرر من خلالها سياساتها التوسعية في المناطق الفلسطينية. وبالطبع ليس من مصلحة إسرائيل أن تؤكد سلطتها الدائمة على المواطنين الفلسطينين في هذه مناطق ذات وضع فريد لذلك اعتبروا شعباً محتلاً.
قد يكون مفهوم ”الوضع الفريد“ مناسباً بالنسبة لأراضي مثل أراضي القارة القطبية الجنوبية أنتارتيكا. إلا أن هذا المفهوم غير مناسب بل إنه خاطئ في حالة أراض تم احتلالها عسكريا كنتيجة لنزاع مسلح كما هو الحال في قطاع غزة والضفة الغربية. وأن الاحتلال في غزة قد أنهي في عام ٢٠٠٥ وأن غزة دخلت في وضع فريد هو ادعاء يجب تقديره في ضوء محاولات إسرائيل السابقة بإعطاء ترخيصات قانونية لسياسات أحادية الجانب تم تطبيقها بما ينافي القانون الدولي.
إن أولئك الذين يؤكدون الوضع الفريد لقطاع غزة يتجاهلون بشكل متعمد كل المعايير التي تحدد متطلبات وشروط الانتهاء الفعلي للاحتلال. فالإنهاء الحقيقي للاحتلال لا يتطلب فقط إنهاء النزاع بل أيضا يتطلب إعادة تأسيس سيادة يستطيع من خلالها الشعب المحتل ”مسبقا“ من ممارسة حقه في تقرير مصيره. أما في الوضع الفلسطيني يتطلب الانتهاء الفعلي للاحتلال تأسيس سيادة فلسطينية يستطيع الشعب الفلسطيني من خلالها أن يمارس حقه في تقرير مصيره. ومثالا على ذلك هضبة الجولان المحتلة, فالإنهاء الفعلي للاحتلال يتطلب إعادة تأسيس السيادة السورية على هذه المنطقة.
بالرغم من أن ضم الأراضي المحتلة مخالف للحظر الدولي ضد الاستيلاء على الأراضي بقوة السلاح إلا أنه قد يكون حلاً بديلاً إذا ما تم استخدامه كوسيلة إنهاء نزاع معترف عليها دولياً , إذ يتطلب ذلك إعطاء الشعوب المحتلة حق تقرير مصيرها من خلال إعطائها حق المواطنة في الدولة التي ضُمَّتْ إليها.
الأراضي المحتلة تحت القانون الدولي الإنساني
تبقى الأراضي التي تم احتلالها عسكريا تحت الاحتلال حتى يتم استبدال الحكم الأجنبي بسيادة ما. ومن هنا طالما بقي قطاع غزة بدون سيادة يبقى محتلا, وطالما بقي القطاع محتلا تبقى علاقته مع إسرائيل محكومة من قبل القانون الدولي الإنساني الذي يشكل جزءاً من قوانين الحرب. تضم هذه القوانين اتفاقيات جنيفا الأربعة عام ١٩٤٩ واتفاقية لاهاي عام ١٩٠٧والبروتوكولين الإضافيين الأول والثاني من عام ١٩٧٧. وتنص اتفاقية جنيف الرابعة التي تحدد طبيعة الحكم في مناطق محتلة عسكريا من قبل حكومات أجنبية على أن المدنيين المقيمين في هذه المناطق المحتلة محميون بحسب هذه الاتفاقية.
وتُعْتَبر قوانين الحرب قوانين استثنائية, حيث تشير صفة الاستثنائية إلى حالة النزاع بينما حالة السلام هي عكس صفة الاستثنائية هذه. (حيث يُراعى القانون الدولي الإنساني في حالة النزاع المسلح أي ينص على معايير السلوك الحربي, بينما يبقى هذا القانون في حالة اللاأدريّ بما يخص مشروعية الأسباب التي قام عليها النزاع المسلح أي بما يتعلق بمعايير مشروعية الحرب).
إن الاحتلال بشكل عام حتى الاحتلال المطول منه هو استمرار للنزاع ولذلك في تلك الحالة يجب بقاء القانون الإنساني الدولي في حيز التطبيق حتى تتم إعادة السلام. أما تفسير القانون الدولي الإنساني العرفي فقد تم شرحه بطريقة غامضة في قرار المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة : يطبق القانون الدولي الإنساني من بداية النزاع المسلح ويستمر تطبيقه إلى مابعد وقف العداءات حتى يتم الوصول إلى اتفاقية سلمية…. وحتى تلك اللحظة يبقى القانون الدولي الإنساني في حيز التطبيق في كامل منطقة الدول المتنازعة، أو كامل المنطقة الواحدة التي تقع تحت سيطرة أيٍّ من الطرفين , في حالة النزاع الداخلي, سواء أكان هناك قتال حقيقي قائم أم لا لذلك فإن أي اقتراح بأن هناك حالة ”وضع فريد“ سواء أكان تحت سيادة ما أو احتلال أو حالة نزاع مستمر هو تفسير ملفق للقانون. وقد كتبت بالتعاون مع مارك لافين:
إن صفة ”وضع فريد“ تضع الضفة الغربية وقطاع غزة وسكانهما في حالة استثنائية خارج نطاق تطبيق القانون الدولي الإنساني مما يجعل هذه المناطق عرضة لجميع السياسات التي تقرر إسرائيل (بحسب تفسير إسرائيل له) أن تفرضها دون أن تخشى مخالفة القانون الدولي لحقوق الإنسان والاعتبارات الإنسانية. ومن هنا فإن الادعاءات بأن احتلال غزة قد انتهى في عام ٢٠٠٥ فقط لأن إسرائيل أجْلت قواتها العسكرية الثابتة ومستوطناتها المدنية هي مجرد حجج سياسية تشبه الحجج التي يقيمها محامو الحكومة أو الباحثون القانونيون. فمهما تجاهلنا وهمشناالحجج القانونية لصالح الحجج السياسية فإن امكانية إسرائيل ممارسة السيطرة الفعلية على قطاع غزة لم تنته بعد.
معايير السيطرة الفعلية
ماهي معايير السيطرة الفعلية في حالة قطاع غزة؟ شرح مراسل الأمم المتحدة الخاص والمسؤول عن وضع حقوق الإنسان في المناطق الفلسطينية المحتلة جون دوغارد في عام ٢٠٠٧ أن مظاهر السيطرة الفعلية المستمرة لإسرائيل على قطاع غزة تتجلى فيما يلي: أولاً سيطرة إسرائيل على تقاطعات الطرق الرئيسية الستة في غزة. ثانياً تتم السيطرة من خلال عمليات عسكرية وهجمات صواريخ وقنابل صوتية, بالإضافة إلى جعل بعض المناطق داخل قطاع غزة مناطق فصل يؤدي الدخول إليها إلى احتمال إطلاق الرصاص. ثالثاً السيطرة التامة على جو ومياه القطاع. رابعاً السيطرة على قيود وسجلات النفوس الفلسطينية التي لها السلطة في تقرير وتحديد من يُسمح له أن يكون فلسطينيا أو مقيما في قطاع غزة.
بالإضافة إلى كل ذلك فإن سيطرة إسرائيل الفعلية تتجلى في قدرتها المستمرة على الهجوم على غزة والقبض على سكانها ونقلهم إلى داخل إسرائيل. فالكنيست الإسرائيلي كان قد أصدر قانون الإجراء الجنائي في عام ٢٠٠٦ الذي يسمح بمحاكمة الغزاويين في محاكم إسرائيل المدنية وزجهم في سجونها. وقد صدر هذا القانون في ظل انسحاب إسرائيل الأحادي الجانب الذي تضمن حل المحكمة العسكرية في قاعدة إرز على الحدود مع غزة. وفي ذات اليوم الذي طبقت فيه إسرائيل خطة الانسحاب هذه في أيلول ١٢ عام ٢٠٠٥ كانت قد أصدرت قرارا بسجن غزاويين تحت قانون سجن المحارب غير النظامي الصادر عام ٢٠٠٠. وكان قانون سجن المحاربين غير النظاميين قد سُنَّ على نفس شاكلة الأمر العسكري الذي أصدره الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش في ١٣ نوفمبر عام ٢٠٠٥, وكان الهدف منه خلق حجة قانونية لسجن القوميين اللبنانين المخطوفين والذين أرادت إسرائيل مقايضتهم مقابل استرجاع سجناء الحرب الإسرائيلين ورفات الجنود المقتولين في لبنان. ومنذ عام ٢٠٠٥ تستخدم إسرائيل قانون الإجراء الجنائي من أجل تنظيم وإدارة اعتقال الغزاويين وسجنهم دون محاكمة.
بحسب تعبير منظمة دعم السجناء وحقوق الإنسان أدامير فقد سجنت إسرائيل ٤٤٥ غزاوياً منذ بداية نوفمبر عام ٢٠١٢، بينما تدلي الهيئة الدولية لمنظمة الصليب الأحمر أن عدد المعتقلين قد وصل إلى ٥٥٠ غزاوياً.
وقد تغير الكثير منذ أن قدّم دوغارد تحليلاته المهمة في عام ٢٠٠٧, إلا أن هذه التغييرات لم تؤيد الادعاء أن إسرائيل لا تمارس حقا سلطة فعلية في غزة. وقد قدمت سارة روي مؤخراً في مقالة في بوسطن غلوب أمثلة عديدة على استمرار سيطرة إسرائيل على كل الأحداث اليومية في غزة بالرغم من غياب الإدارة الإسرائيلية العسكرية في المنطقة. وجاء في مقالتها:
إن مناطق الفصل المفروضة من قبل إسرائيل تشكل ١٤٪ من أراضي قطاع غزة وعلى الأقل ٤٨٪ من الأراضي الصالحة للزراعة. كذلك بالنسبة لمناطق الفصل البحرية حيث تغطي ٨٥٪ من المناطق الصالحة للملاحة التي وعدت معاهدة أوسلو بها الفلسطينين, مما أدى إلى تقليص المساحة الصالحة للملاحة من ٢٠ ميلاً إلى ٣ أميال فقط. وحتى تلك مياه المنطقة ملوثة بمياه المجاري بما يتجاوز ٢٣ ميلونا من الغالونات يومياً. كما لخص عضو وفد أكاديمي سافر إلى غزة في أكتوبر عساف كفوري بعضا من العناصر الموثقة والتي تثبت سيطرة إسرائيل الفعالة والمستمرة ألا وهي:
قطاع غزة مقاطع من كل الجوانب. فالحصار الإسرائيلي البحري يمنع نقل الأشخاص والبضائع بشكل كامل عن طريق البحر، بينما الحدود الداخلية مع إسرائيل مغلقة بشكل محكم. أما رفح التي تقع على أقصى جنوب القطاع تشكل منفذ الفلسطينين الوحيد والصعب للدخول والخروج من القطاع وذلك عبورا بمصر. فإسرائيل تسيطر على تقاطع إريز وتراقب بدقة دخول موظفي المساعدات الدولية والصحفيين وبعض الفلسطينين…فعلى مر السنوات والعقود. السابقة مازالت الصناعات الفلسطينية في غزة بما فيها الصناعات الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية تتعرض للتخريب والإيذاء لصالح الصناعات الإسرائيلية. ولقد أشار تقرير الأمم المتحدة بعنوان ”غزة في علم ٢٠٢“ أن غزة لن تكون منطقة قابلة للسكن في عام ٢٠٢٠ وكأمثلة على سيطرة إسرائيل الفعالة والمستمرة يقدم عساف كفوري مارأه بأم عينيه :
من المفروض أن يعطي النظر إلى البحر ومياه الهادئة هدوءاً ومهرباً من مآسي الحياة في داخل القطاع وأوجاعها, إلا أن ذلك ليس الحال في غزة. ففي الصباح تستيقظ على أصوات إطلاق النار من مكان ما على الشاطئ، وهذه الأصوات ليست كما ظننتها أصوات الألعاب النارية التي يلعب بها الأطفال ولا صوت قطع ادينامت التي يفجرها الناس تحت الماء ليجمعوا كميات كبيرة من السمك المفزوع. إنما هي أصوات إطلاق الرصاص الآتي من قوارب إسرائيلية تحذر الصيادين من الخروج خارج حدود الأميال الثلاثة. وقد عملنا صباح رحيلنا من قطاع غزة أن صيادين من الذين تخطوا حدود الأميال لاثلالثة قد قتلوا يوم أمس.
لقد سبقت إجراءات السيطرة الفعلية هذه ونتائجها الإنسانية السلبية الإنسحاب الأحادي الجانب في عام ٢٠٠٥ ومازالت مستمرة منذ ذلك الوقت فهي كانت وتبقى العصا التي تقسم ظهر البعير في سياسة إسرائيل لاحتلال غزة.
الوضع الفريد كرخصة قتل
لم تضع إسرائيل صيغة واضحة لمعنى وضع ”لم يعد محتلاً“ في عام ٢٠٠٥ ولا في السنوات التي سبقت الانسحاب، فمعنى هذا الوضع بدأ يتطور منذ بدايات التسعينات نتيجة للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية. فعملاً بمبادئ معاهدة أوسلو فقد نقلت قوات إسرائيل العسكرية من المناطق الفلسطينية المأهولة بالسكان, كما حُلَّت الإدارة المدينية مع بقاء المحاكم العسكرية في مناطق متنقلة ومتعددة داخل الأراضي, بالإضافة إلى تشكيل السلطة الفلسطينية.
هذه التغيرات السياسية حملت إسرائيل على تغيير موقفها حيال الوضع القانوني للضفة الغربية وقطاع غزة بأنها مناطق مدارة. حيث أكد مسؤولون أن المناطق الواقعة تحت السيطرة الشبه مستقلة للسلطة الفلسطينية أصبحت أجنبية وبدون سيادة بطريقة مختلفة. وقد أخذ هذا الأمر بعداً أكثر أهمية بعد فشل المفاوضات في عام ٢٠٠٠ وبعد بداية الانتفاضة الثانية في شهر أيلول والتي أدى إلى تفجيرها زيارة إرييل شارون الاستفزازية للحرم الشريف وهو محاطا بـ ١٠٠٠ مرافق مسلحاً وكرد على المظاهرات الفلسطينية قامت إسرائيل بتسهيل قواعد التدخل العسكرية وبدأت باستخدام الأسلحة الثقيلة مثل رشاشات الدبابات وطائرات الهليكوبتر. وبحسب التفسيرات المتفق عليها دوليا للقانون الدولي الإنساني فإن الاستخدام الثقيل لقوات الدولة المحتلة العسكرية ضد المدينيين في المناطق المحتلة (أي الأشخاص المحميون) مخالف للقانون.
ويبرر المسؤولون الإسرائيليون استخدام القوى العسكرية المتقدمة بأن نشر الشرطة وقوات حفظ الأمن في المناطق الفلسطينية لم يعد ممكنا بسبب انسحاب إسرائيل من هذه المناطق ولأن الفلسطينيين يحوزن على الأسلحة الصغيرة، الأمر الذي يجعل منهم قوة أجنبية معادية. كما وصف المسؤولون الإسرائيليون الانتفاضة الفلسطينية الثانية بأنها نزاع مسلح شبيه بالحرب ولذلك فإن لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها ضد العدو منكرةً في الوقت نفسه أي حق لهؤلاء الأعداء العديمي الجنسية باستخدام القوة أو حق الدفاع عن النفس. (انقر هنا لتقرأ تحليل نورا عريقات عن هذه المواضيع.) في نوفمبر عام ٢٠٠٠ وبعد شهرين من بداية أحداث الانتفاضة الثانية المتزايدة في العنف من قبل الطرفين أصبحت إسرائيل أول دولة في العالم تصرح بشكل علني عن سياسة القتل الوقائي المستهدف .وقد كانت إسرائيل متورطة بهذا النوع من القتل في المناطق الفلسطينية منذ الانتفاضة الأولى إلا أنها كانت تنكر ذلك علناً. وقد وضع المسؤولون الإسرائيليون صيغة تؤكد قانونية القتل الوقائي المستهدف على الأسس التالية: أولاً يعتبر الفلسطينيون مسؤولون عن مشاعر الكره التي أدت إلى حرب إرهابية ضد إسرائيل. ثانياً يسمح قانون الحرب للدول أن تقتل أعداءها. ثالثاً إن الأشخاص المستهدفين هم بحد ذاتهم قنابل موقوتة يجب قتلها لأنه تعذر اعتقالهم وهم قادرون بشكل واضح على تسبب ضرر أكيد. رابعاً اغتيال الإرهابيين هو نوع شرعي من أنواع الدفاع عن النفس والدولة بينما موت الأشخاص غير المستهدفين هو ”ضرر ملازم“ لا مفر منه.
وفي عام ٢٠٠١ قُدِّمت عريضتا استدعاء إلى محكمة العدل العليا الإسرائيلية من أجل الطعن في قانونية سياسة القتل المستهدف وقد رفضت المحكمة قبول هاتين اللائحتين معللة رفضها بأن اختيار الطرق الحربية التي تستخدمها الدولة من أجل استباق الهجمات الإرهابية الإجرامية ليست ضمن مجالات محكمة العدل العليا وأن المحكمة لا ترى نفسها مؤهلة للبت بها. إلا أن المحكمة أعادت النظر في موقفها وأهليتها القانونية وقررت قبول الاستدعاء المقدم من قبل اللجنة الشعبية ضد التعذيب في إسرائيل : الجمعية الفلسطينية لحماية البيئة وحقوق الإنسان.
ويبدأ حكم محكمة العدل العليا بما يتعلق بقانون القتل الذي أُصدر في ١٥ كانون الأول ديسمبر عام ٢٠٠٦ وكُتِبَ من قبل مدير العدل السابق أهارون باراك بفقرة تتحدث عن ”الخلفية الواقعية“ التي تدعي أن ”حملة إرهابية ضخمة كانت موجهة ضد دولة إسرائيل والإسرائيليين فقط لكونهم إسرائيليين“وبما أن القتل المستهدف في قطاع غزة والضفة الغربية كان جزءاً من نفس السياسة فلا الدعوى القضائية ولا محكمة العدل العليا ميزت بينهما, بل تم الإشارة إلى تلك المواقع بكلمة ”المنطقة“ وأنها ”خارج نطاق الدولة “، واستخدام المفردات هذه يساعد على تجنب مواجهة مسألة إن كان الفلسطينيون مازالوا شعباً محتلاً أم مدينيون محميون. إضافة إلى ذلك تم وصف هذا النزاع المسلح على أنه بين دولة إسرائيل و منظمات إرهابية و أن هذا النزاع مستمر منذ الانتفاضة الأولى. يدل هذا الدمج بين قطاع غزة والضفة الغربية على هشاشة الاقتراح المدعى منذ ٢٠٠٥ بأن قطاع غزة والضفة الغربية لا تختلفان عن بعضهما من ناحية كونهما محتلتان بوضع فريد.
الحصار هو حرب بوسائل أخرى
أدى الخلاف بين حماس وفتح الذي وقع بعد الانتخابات التشريعية الفلسطينية في عام ٢٠٠٦ التي فازت بها حماس إلى انفراد حماس بالسيطرة على قطاع غزة بينما سيطرت فتح تحت شعار السلطة الفلسطينية على الضفة الغربية. وفي ١٩ من أيلول سبتمبر عام ٢٠٠٧ أعلنت إسرائيل أن غزة أصبحت منطقة عدائية وهو مصطلح غير متعارف عليه في أي اتفاقية من اتفاقيات القانون الدولي الإنساني. وفي تصريح صدر نفس اليوم من قبل اللجنة الوزارية حول مسائل الأمن القومي جاء أن إسرائيل تنوي مواصلة ”عملياتها العسكرية ضد الإرهاب والمنظمات الإرهابية“, كما جاء أيضاً في هذا التصريح أن: ستفرض إسرائيل مزيداً من العقوبات على حكومة غزة من أجل تقييد مرور البضائع المتنوعة إلى قطاع غزة وتقليص إمداداتها بالكهرباء والوقود. كما سيتم تقييد حركة الأشخاص من وإلى القطاع. وسيتم فرض هذه العقوبات بعد تحقيق قانوني مع مراعاة النواحي الإنسانية المناسبة لقطاع غزة وتجنب أي أزمات إنسانية.
وما إن أصدرت هذا التصريح حتى قامت مجموعة منظمات معنية بحقوق الإنسان بتقديم عريضة استرحام إلى محكمة العدل العليا, تنص هذه العريضة على أن تقييد إمدادات الوقود والكهرباء إلى غزة هو عمل غير قانوني من قبل حكومة الاحتلال لأن ذلك ينطوي على عقاب جماعي، كما سيؤدي عمل كهذا إلى عواقب إنسانية سلبية تؤثر على خدمات أساسية مثل المستشفيات ومعالجة المياه والمجاري.
حمل قرار محكمة العدل العليا حماس وحدها مسؤولية تشكيل خطر على أمن إسرائيل كما تملص من تهمة العقاب الجماعي غير القانوني من خلال الإشارة بسذاجة إلى تصريح الحكومة أنها ستراعي النواحي والحاجات الإنسانية لسكان قطاع غزة. وهكذا تبنت المحكمة قرار الدولة بتقييد هذه الموارد كجزء من سياساتها لمكافحة الإرهاب معتمدة في ذلك على الإدعاء الواهم بأن قطاع غزة لم يعد منطقة محتلة. ومرة أخرى وبنفس الأسلوب الذي اتبعته في قرار القتل المستهدف أعلنت محكمة العدل العليا بأن العلاقة بين إسرائيل وقطاع غزة هي علاقة نزاع حربي مع حماس وبذلك فإن إسرائيل ليست ملتزمة بأي واجبات إيجابية مفروضة على دولة الاحتلال بل إنها ملتزمة فقط بالواجبات السلبية المتعلقة بالنزاع الحربي التي تلحق ضررا متعمدا على المدنيين.
وخلافا لهذه الإدعاءات بمراعاة النواحي الإنساينة فإن قطاع غزة مازال يعاني منذ عام ٢٠٠٧ من أزمات إنسانية على درجات صاعقة, فتقييد مرور المواد الغذائية أصبح جزءاً من سياسة تعمل على السماح بمرور كميات محسوبة من الغذاء تكفي فقط لتجنب حالة نقص غذاء جماعية، حيث يتم حساب هذه الكميات على أساس حساب معدل عدد الحريرات على عدد السكان.
هكذا فإن هذا الحصار مدعوما بحصار بري وبحري وتفجير كل أنفاق التهريب بين القطاع وسيناء حرم سكان قطاع غزة من الحصول على معدات طبية وأدوات بناء وكل المواد الأساسية. وقد تفاقمت الانعكاسات الإنسانية لهذا الحرمان بشكل متزايد نتيجة لتدمير وتحطيم الذي نتج عن عملية الهجوم على غزة العسكرية في شتاء عام ٢٠٠٨-٢٠٠٩. وقد نقل تقرير الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في صيف عام ٢٠١٢ أي بعد أن دخل الحصار على غزة عامه السادس أن ٤٤٪ من سكان غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي, كما أن نقص الوقود والكهرباء يؤدي إلى انقطاع الكهرباء أكثر من ١٢ ساعة في اليوم، وأن الاقتصاد مقيد إلى درجة أن الناتج المحلي الإجمالي أصبح أقل من الناتج المحلي الإجمالي لعام ٢٠٠٥ بـ ١٧٪ على أقل تقدير ، كما ارتفع معدل البطالة عن العمل خصوصا بين الشباب ليصل إلى معدلات لم يسبق لها مثيل من قبل. وقد أدان خبراء الأمم المتحدة لحقوق الإنسان و لجنة للصليب الأحمر الدولية ومصادر أخرى هذا الحصار ووصفوه بأنه غير قانوني، وجوهر كل هذا الإدانات أن قطاع غزة مازال محتلاً.
ماجدوى السؤال إن كان قطاع غزة مازال محتلاً؟
إن القانون الدولي ليس دواءً للأضرار والأمراض الناتجة عن النزاع، إلا أنه يزودنا بمعيار لقياس وتقدير الواقع التجريبي كما أنه أداة نستطيع من خلالها المطالبة بتنفيذ عقوبات الانتهاكات. ويصبح القانون الدولي ذا أهمية أكبر خاصة عندالأشخاص عديمي الجنسية والأشخاص الذين يسكنون في ظل الاحتلال لأنه ليس لديهم قانون وطني داخلي يقدم لهم الوسائل البديلة ليؤكدوا أو يمارسوا حقهم بتقرير مصيرهم. في ضوء هذه الظروف فإن القانون الدولي يشكل لهم نقطة المرجعية للمطالبة بحقهم بتقرير مصيرهم أو أي حقوق أخرى بموجب كونهم بشر.
قد يستطيع الفلسطينيون أن ينالوا حقوقهم أو لايناولوها من خلال طرق سياسية ودبلوماسية أو عسكرية، إلا أن ذلك لا يغير الحقيقة أنه طالما استمر الاحتلال وسيستمر بغياب السلام والسيادة وحق تقرير المصير فإن كل ما يجري في قطاع غزة والضفة الغربية يقع في مسؤوليات القانون الدولي ويبقى شأناً دولياً
لو لم يكن القانون الدولي ذا أهمية لما وضعت إسرائيل جهودا مكثفة لاختلاق تفسيرات بديلة لتغطي نواياها وسياساتها في المناطق المحتلة منذ عام ١٩٦٧ حتى اليوم. هذه التفسيرات الملفقة تعارض الاتفاقات الدولية والتفسيرات المعتمدة للقانون الدولي.
أنا أؤمن أنه من المهم أن يفهم الناس الفجوة بين ما يسمح به القانون الدولي وبين ممارسات إسرائيل وادعاءاتها بما يتعلق بحقوقها اتجاه الفلسطينين والأراضي المحتلة منذ ١٩٦٧. لماذا هذه الأهمية؟ لأن فهم القانون الدولي هو طريقة لاحترام المعايير الإنسانية وحقوق الإنسان التي لم يكن تأسيسها بالأمر السهل. إن هذا الفهم هو خطوة من أجل تحويل هذا القانون الدولي إلى معيار فعال وأداة لنيل الحقوق والعدالة. إن استيعاب ونشر هذا الفهم هو أكثر من مجرد قضية بل إنه مشروع و دعوة لجعل القانون مهماً بالنسبة لحياة أولئك الذين هم بأمس الحاجة إليه وأيضاً أولئك الذين ينتهكونه.
[اضغط/ي هنا للنسخة الإنجليزية. ترجمة بنان غرمش ]